بقلم / د. إيمان محمد العابد
دكتوراه في الأثار والفنون الإسلامية ــ وزارة السياحة والآثار
"القاهرة الخديوية" .. "باريس الشرق" .. "وسط القاهرة".. "وسط البلد"
جميعها مسميات لكنز معماري مهيب ومتحف مفتوح زاخر بالمباني والعمائر الفخمة يزيد عمره عن مائة وخمسون عاماً يقع في قلب القاهرة ؛ فـ " القاهرة الخديوية " هي منطقة قلب القاهرة التي أقيمت في عهد الخديوي إسماعيل ـ خامس حكام مصر من أبناء أسرة محمد علي ـ ؛ والذي تولى عرش مصر خلال الفترة ما بين عامي (1863 ـ 1879م) فهل تخيلت يوما ً كيف كان شكل منطقة وسط البلد قبل عهد الخديوي إسماعيل ؟!! تلك المنطقة التي كانت تتكون من مساحات شاسعة من البرك والمستنقعات التي تطل عليها منازل وبيوت البسطاء والعوام من الناس ؛ ومما يذكر في هذا الصدد أن العديد من كتاب الغرب كانوا يصفون القاهرة بقولهم : " خير لك أن تسمع عن القاهرة من أن تراها ؛ إنها عاصمة البعوض ، ويعيش زائرها طوال العام تحت الناموسية" ؛ فثار حماس إسماعيل ، ورد عليهم بقوله :" إن القاهرة ستكون قطعة من أوروبا ، وسوف تكون أجمل من باريس".
من هو الخديوي إسماعيل ؟!!
هو إسماعيل بن إبراهيم باشا وحفيد محمد علي باشا. ولد في 31 ديسمبر 1830 م في قصر المسافر خانه بالجمالية ، وهو الابن الأوسط من بين ثلاثة إخوة غير أشقاء وهم الأميرين أحمد رفعت ومصطفى فاضل . اهتم والده إبراهيم باشا بتعليمه، فأرسله في سن الرابعة عشر إلى فيينا ؛ لكى يعالج بها من إصابته برمد صديدي، إلى جانب استكمال اتعليمه ؛ فتعلم مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية ، بالإضافة إلى القليل من الرياضيات والطبيعة ؛ مكث في فيينا لمدة عامين، ثم التحق بالبعثة المصرية الخامسة إلى باريس لينضم إلى تلاميذها ، التي درس بها علوم الهندسة والرياضيات والطبيعة .
كما أتقن اللغة الفرنسية تحدثاً وكتابة وتأثر بالثقافة والمعمار الفرنسي كثيراً، ثم عاد إلى مصر في عهد ولاية والده إبراهيم باشا ، وعندما توفي إبراهيم خلفه في الحكم إبن أخيه عباس حلمي الأول ، وقد كان الأمير إسماعيل يكره عمه عباس ؛ فلما تولى الحكم شعر إسماعيل واخوته بكراهية عباس لهم ، وعندما توفي جده محمد على ؛ اشتد الخلاف بين إسماعيل وبقية الأمراء بشأن تقسيم ميراث جده وسافر إسماعيل وبعض الأمراء إلى الاستانه وعينه السلطان عبد المجيد الأول عضواً بمجلس أحكام الدولة العثمانية ، وأنعم عليه بالبشاوية ؛ ولم يعد إلى مصر إلا بعد مقتل عمه عباس وتولى بعده عمه محمد سعيد ولاية مصر.
بعد وفاة محمد سعيد باشا في 18 يناير 1863م حصل " إسماعيل " على السلطة دون معارضة ؛ وذلك لوفاة شقيقه الأكبر أحمد رفعت باشا ومنذ أن تولى مقاليد الحكم ظل يسعى إلى السير على خطى جده محمد علي . وفي 8 يونيو 1867 أصدر السلطان عبد العزيز الأول فرمانا ً بمنح إسماعيل لقب الخديوي مقابل زيادة في الجزية.
يٌعد " الخديوي إسماعيل " ثاني مؤسس لمصر الحديثة ؛ عقب إنشائها على يد جده محمد علي باشا باني مصر الحديثة وراعي نهضتها الأول ؛ فقد اتخذ على عاتقه طوال فترة حكمه العمل على تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر بشكل كبير ليستحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة ؛ فقد اهتم الخديوي إسماعيل بالنهوض بمدينة القاهرة قلب مصر النابض اهتماما ً كبيرا ً ، حيث ساهم في إعادة تأسيسها وبنائها على النسق الأوروبي الحديث ؛ كي تواكب في جمالها وروعتها كبرى المدن الأوروبية المعاصرة لاسيما مدينة " باريس " ، التي كان يعشقها ويحبها حبا ً جما ً ، حتى صار يحلم بكيفية تحويل القاهرة من مجرد منطقة تتكون من مساحات شاسعة من البرك والمستنقعات إلى مدينة رائعة تزخر بالعمائر والمتنزهات الفسيحة الشاسعة .
كان إنشاء القاهرة الخديوية أو منطقة وسط القاهرة من المشاريع المعمارية الضخمة التي شهدها القرن التاسع عشر الميلادي ، حيث كان الهدف من إنشائها أن تضاهى كبرى العواصم الأوروبية لاسيما باريس ، وبمرور الزمن أصبحت هذه المنطقة كنزًا معماريًا من المباني والمنشأت بزخارفها المعمارية ومنحوتاتها الجدارية ومعرضًا فنيًا مفتوحًا لمختلف فنون وطرز العمارة المتنوعة.
عرف التطوير طريقه إلى قلب القاهرة الحديثة في عهد "محمد علي باشا ؛ ومع ذلك بدأت النهضة العمرانية الحقيقية بها بشكل جدي ومدروس ومخطط له في عهد الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا .
على الرغم من توالي ثلاثة خلفاء على حكم مصر بعد محمد علي باشا ، إلا أن إسهاماتهم في مجال العمارة لم تكن بالشيء الملموس الذي يمكن التأريخ له إلا فيما ندر، مثل قصر الروضة الذي يعود تاريخ بنائه إلى عهد إبراهيم باشا ، وإنشاء حي العباسية في عهد عباس الأول ، وحفر قناة السويس في عهد سعيد. على عكس عهد إسماعيل باشا الذي تميز بطفرة معمارية كبرى على المستويات كافة.
عندما تولى الخديوي إسماعيل الحكم عام 1863م ، كانت حدود القاهرة تمتد من منطقة القلعة شرقاً، إلي مدافن الأزبكية وميدان العتبة غرباً، ويغلب على أحيائها التدهور العمراني والعشوائية المفرطة ، ويفصلها عن النيل عدد من البرك والمستنقعات والتلال والمقابر، بمساحة لا تتخطي خمسمائة فدان. وكان تعداد سكانها في ذلك الوقت لا يتجاوز ثلاثمائة ألف نسمة.
وفي أثناء زيارة الخديوي إسماعيل لباريس عام 1867م لحضور معرض باريس الدولي ، طلب الخديوي إسماعيل شخصيًا الإمبراطور نابليون الثالث أن يعهد إلى المهندس الفرنسي وخبير تخطيط المدن " هاوسمان " ؛ الذي قام بتخطيط باريس أن يقوم بتخطيط القاهرة الخديوية. وفي مقابلة التكليف بين الخديوي إسماعيل و" هاوسمان " ، طلب إسماعيل من " هاوسمان " أن يحضر معه إلى القاهرة كل بستاني وفنان مطلوب لتحقيق خططه.
كان لمشروع " القاهرة الخديوية " الذي وضعه " هاوسمان " بالغ الأثر في تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم ؛ ليطلق عليها كتاب الغرب حينذاك «باريس الشرق».
تمثل القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعد من المشروعات العالمية البارزة التي تمت في ذلك القرن لما بني عليه تخطيطها من دراسات للتخطيط والتعمير الشامل وتحطيم كل ما يعيق التنفيذ لإخراجها سريعًا إلى حيز الوجود بالشكل الذي يجعلها تضاهي أجمل مدن العالم.
في عام 1872م افتتح " الخديوي إسماعيل " "شارع محمد علي" بالقلعة بطول 2.5 كم فيما بين باب الحديد والقلعة على خط مستقيم ، وزينه على الجانبين بالبوائك ، كما افتتح كوبري قصر النيل في العام نفسه على نهر النيل بطول 406 م ، وكان وقتها يعد من أجمل قناطر العالم إذ زين بأبعة تماثيل لأسود من البرونز صنعت خصيصاً في إيطاليا.
كما افتتح أيضاً كوبري أبو العلا على نهر النيل على بعد 1 كم تقريباً من كوبري قصر النيل ، والذي صممه المعماري الفرنسي "جوستاف إيفل" ـ صاحب تصميم برج إيفل الأشهر في باريس ، ومصمم تمثال الحرية في نيويورك.
وفي عام 1875م قام بشق شارع "كلوت بك" ، وافتتح دار الأوبرا المصرية ، ثم أنشأ السكة الحديد وخطوط الترام ؛ لربط أحياء العتبة والعباسية وشبرا ، كما تم ردم البرك والمستنقعات للتغيير من حدود المدينة ، وتحويل مجرى النيل الذي كان يمر ببولاق الدكرور وبمحاذاة شارع الدقي حالياً.
وقد تزامن هذا مع تنفيذ شبكة المياه والصرف الصحي والإنارة ورصف شوارع القاهرة بالبلاط وعمل أرصفة وأفاريز للمشاه ، وخطت الحدائق التي تم استيراد أشجارها من الصين والهند وأمريكا والسودان.
وهكذا يعد " الخديوي إسماعيل " أحد رعاة الحياة الفنية والمعمارية ومن الشخصيات الرائدة في تاريخ مصر الحديث الذين أثروا الهيكل الحضاري في مصر وساهموا في نهضتها ورفعتها ؛ وتغيير شكلها تماما ً من العشوائية العمرانية إلى مدينة تتسم بالرقي والتحضر في شتى مظاهرها معماريا ً ، فنيا ً، اجتماعيا ً وحضاريا ً ؛ إلى أن تم خلعه عن العرش السلطان العثماني تحت ضغط كل من إنجلترا وفرنسا في 26 يونيو